اسم لبنان في معناه اللفظي (الجزء الاول) - كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -

  اسم لبنان في معناه اللفظي 
(الجزء الاول)


  « لبنان » لفظ مستمدّ من اللغات السامية القديمة، وقد بقي عبر العصور محافظاً على أصله دون اختلاف يُذكر . فقد ورد باسم :
    « لَبنانا » La-ab-na-na عند البابليين ،
    و « لَبنان » La-ba-na-an و « لُبانو » Lübȃnu و « لِباميم » Li-ba-mim في نصوص إيبلا،
     و « لَبان » La-ab-a-an ، و « لَبناني » Lab-na-a-ni \ Lab-na-ni و « لَبنانا » Lab-na-na عند الاشوريين ،
    و « لبنانو » La-ab-na-nu عند الكلدان
    و « لَبلانا » La-ab-la-na و « نِبلاني » Nib-la-ni في النصوص الحثية،
    و « رَمَنَنَ » Rmnn و « رَبَرنَ » (R(a) b(a) r(a) n(a في النصوص المصرية الفرعونية القديمة،
    وضبطه الفينيقيون « لبنن » Lbnn ، والعبرانيون « لِبَنون » Libanon،
    وعنهم اشتق اليونان والرومان الأسم « ليبانوس » Libanos و Libanus،
    أما العرب فقالوا « لُبنان » بضمّ اللام وسكون الباء وفتح النون.

    واسم لبنان مشتق من جذر ثلاثي مشترك بين جميع اللغات السامية هو « لبن » ، ومعناه « أبيض » . وتشمل اللغات الساميّة، الاكادية، والبابلية والاشورية ، ثم الكنعانية الفينيقية والعبرية، ثم الآرامية التي اشتقّت منها السريانية ، ثم العربية والحبشية.



    فما هي الأسباب التي جعلت الشعوب الساميّة الشرقية تطلق هذه التسمية على لبنان ؟ 

أ- « لبنان » = « الجبل الابيض »

    يؤكد معظم البحّاثة وعلماء فقه اللغة ( الفيلولوجيا )، أنّ سبب تسمية لبنان ب « الأبيض » يعود الى بياض الثلوج التي تغطّي قممه معظم أيام السنة، فتميّز لبنان الأبيض من لون البوادي القاتم، من صفرة رمال الصحراء أو خضرة السهول الجهة الشرق، وزرقة مياه البحر لجهة الغرب (١). « يكفي أن يظلّ لبنان مكللاً بالثلج وقتاً طويلاً من السنة حتى تلفت هذه الظاهرة الشرقيين، فتُعطى للبنان هذه التسمية . » (٢) .

    هذا التفسير الاسم لبنان يقودنا إلى الملاحظات الآتية :

    - أولاً : إن اسم لبنان هو تسمية جغرافية تعبّر عن ظاهرة طبيعية مرتبطة بطبيعة لبنان الجبلية هي بياض الثلوج . فلو لم يكن لبنان « جبلاً » ، لما كان « أبيض »، ولما سمي « لبنان ». ... ولأن اسم لبنان هو وصفٌ لظاهرة طبيعية مرتبطة بطبيعة الأرض ، بالتضاريس وبالموقع فإن هذا الوصف لازم الموصوف دائماً ولم يتغيّر مطلقاً وقد ثبت كتسمية دون سائر التسميات التي اطلقت على لبنان أو شملته. وفيما زالت هذه كلها ، ومنها «كنعان»، «فينيقيا»، «زاهي»، «رتنو»، «أمورو» ... ، بقي اسم لبنان مصاحبة مختلف العصور واستمر متداو حتى اليوم . 

    - ثانياً : إن اسم لبنان هو اسم مميّز بين الأسماء الحالية البلدان العالم من حيث مدلوله الجغرافي الطبيعي الثابت، ولا يماثله بينها في ميزته الوصفية إلا أسم « ألبانيا » ( الجبل « الأبيض » Alba ) (٣).

 ولا بد من مقارنة سريعة بين أسماء بلدان العالم لإبراز هذه الحقيقة. فمعظم هذه البلدان تنسب تسميتها الى

    أ- أسماء الشعوب التي استوطنتها ، وبخاصةٍ بلدان أوروبا ، مثل انكلترا ( أرض الانكليز ) ، فرنسا ( بلاد الفرنجة ) بلجيكا ( بلاد البلجيكيّين ) ، ألمانيا ( بلاد الألمان ) ، تشيكوسلوفاكيا بلاد التشيكيّين والسلوفاكيّين ) ، رومانيا ( بلاد الرومان ) . يوغوسلافيا ( سلاف الجنوب ) ... وكذلك بلدان آسيا ، مثل تركيا ( بلاد الترك ) ، أفغانستان ( بلاد الأفغان ) ، برمانيا ( بلاد البرمان ) ، تايلندا ( بلاد التاي ) ، فيتنام ( بلاد الفيت ) ، فلسطين ( الفلسطو ) ، وماليزيا وغيرها . كذلك السودان ( بلاد السود ) ، أوغندا ( بلاد غندا ) ... في أفريقيا. 

    ب- أسماء سلالات أو أسر أو شخصيات تاريخية ، مثل الصين ( سلالة التسين ) ، ليختنشتاين ، لوكسمبورغ ، بوليفيا ، سیمون بوليفار ) والمملكة العربية السعودية ( آل سعود ) ... 

    ج- أسماء تشير إلى موقع جغرافي مثل الإكوادور ( الإستواء ) ، اليمن ( يمين الكعبة ) ، المغرب ، موريتانيا ( المغرب ) ، اليابان ( الشمس الشارقة ) ، أوستراليا ( القارة الجنوبية ) ... 
    أو تحمل أسماء أنهار : الأردن ، نیجر ، نيجيريا ، السنغال ...
    أو أنواع أشجار مثل البرازيل . 
    أو أنواع طيور مثل تشيلي .
    أو حيوان مثل سيراليون ( بلاد الأسد ) . 
    أو معادن كالأرجنتين ( بلاد الفضة ) .

    د- اسماء مستمدّة من واقع تاريخي أو من حضارة شعب ، من تراثه أو من بعض مظاهر عيشه. مثلا ، إسم مصر اليوناني « اجيبتوس » Aigyptos ( أقباط ) . تونس ( الإلهة تانيت تانيس)، سويسرا ( الأرض المحروقة للزراعة ) . فنزويلا ( نسبة ل Venise القائمة على المياه ) ، إسرائيل ( اسم
يعقوب )، ليبيريا ( أرض الحرية ) ، الفاتيكان ( من : Vaticinia النبوءة ) ، إيطاليا، كندا ... 



    - ثالثاً : إن اسم لبنان شمل غالباً ، كل لبنان وليس جزءاً منه . فالساميّون الشرقيون الذين ينسب إليهم إطلاق التسمية، كما تثبت ذلك الوثائق التاريخية التي سنوردها لاحقاً ، قد واجههم لبنان من جهته « الشرقية » ، بجبهة جبال سلسلته الشرقية . هذه السلسلة التي تمتدّ بموازاة السلسلة الغربية، يتساوی امتدادها طول الحدود الشرقية للبنان الحالي ، « ... من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماة » ، بحسب التحديد الوارد في سفر القضاة ( ۳:۳ )،  إي منذ حوالي ۲۵۰۰ سنة .
و « مدخل حماة » هو البوابة الشمالية لسهل البقاع التي تؤدي إلى مدينة حماة (٤) . ويتراوح ارتفاع القسم الشمالي من السلسلة الشرقية بين ۲٤۰۰ م و ۲٦۰۰ م ، بينما يبلغ علوها في القسم الجنوبي
( جبل الشيخ أو حرمون ) ۲۸۱٤ م ، ولا يجتازها أي ممرّ عرضي سالك ، إلا عند وادي الحرير الذي يمرّ عبره الطريق الدولي بيروت - دمشق . وبسبب علو هذه السلسلة ، فإن الثلوج تغطّيها عدّة أشهر من السنة ، تظهر خلالها من جهة الشرق ، كتلة مستطيلة « بيضاء » ناصعة .
فمن المنطقي أن يكون إسم « لبنان » ( « الأبيض » ) قد أطلق أولاً على السلسلة الشرقية من جبال لبنان ، ثم امتدّ لاحقاً نحو الغرب وشمل السلسلة الغربية الموازية

    من ناحية أخرى ، واستناداً إلى النصوص ولاسيما القديمة منها ، فأننا نكاد لا نجد تمييزاً من حيث التسمية بين السلسلتين ، الشرقية والغربية ، الفرعين التوأمين ل « لبنان الجبل » . في « نشيد الأناشيد » ، مثلاً ، نقرأ : « عنقك كبرجٍ من العاج ، وعيناك كبركتي حشبون ... وأنفك كبرج لبنان الناظر إلى دمشق » (٥). فإذا كان الكاتب التوراتي قد حدّد « جبل لبنان ، من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماة » (٦) ، غير ممیّز بين سلسلتيه، فإن « برج لبنان » في نص الكتاب المقدّس هو «جبل حرمون» الواقع في الطرف الجنوبي من السلسلة الشرقية والذي بوسع المرء أن يطل منه على دمشق. وكان « الصيدونيون يدعون حرمون سريون والأموریون يدعونه سنير » (٧)

    والمؤرخ اليهودي فلافيوس يوسیفوس Flavius Josephus ، الذي دوّن في القرن الأول بعد الميلاد وكتب باليونانية ، أشار إلى جبل الشيخ ( حرمون ) ودعاه باسم « لبنان » ، كما أنّه يذكر « منابع نهر الأردن التي تتدفّق من هذا الجبل » (۸) . ويذكر أسقف صور غليوم الصوري Guillaume de Tyr ( حوالي ۱۱۳۰ - ۱۱۸٦ ) ، الذي أرّخ اللحملات الصليبية ، أن « نهر الأردن له منبعان في سفح جبل لبنان ، أحدهما اسمه « يور » Jor ) والاخر « دان » ( Dan ) ومن هذين الإسمين اشتق اسم الأردن
( Jor-Dain ) » .
ويذكر غليوم الصوري من ناحية أخرى ، أن مدينة بانياس ( Paneas او Belinas ) الواقعة عند الطرف الجنوبي من جبل حرمون والتي دعيت في مطلع القرن الأول ميلادي « قيصرية فيليبوس » ( Caesarea Philippi ) هي 
« مدينة قديمة جداَ عند اقدام جبل لبنان » ، « ... وجبل لبنان الذي له شهرة كبيرة في الكتاب المقدس يمتد بين مدينتي بانياس ( Belinas ) ودمشق . » (۹) . وغني عن القول ان الجبل الممتد بين مدينتي بانياس ودمشق هو جبل حرمون الذي يترادف اسمه مع اسم لبنان ، والذي يعتبر مصدر المياه التي تغذي نهر الأردن . ويثبت كتّاب العرب وشعراوهم نسبة الأردن للبنان ، ويلقّبون هذا النهر ، الذي ترفده انهر الحاصباني والوزّاني وبانياس، « إبن لبنان البکر » (۱۰) .

    كتاب الإغريق ، فقد خصّوا السلسلة الغربية من لبنان بإسم « لبنان » Libanos ، وميّزوها بالتسمية من السلسلة الشرقية الموازية لها والتي دعوها مقابل « لبنان » ، Anti - Libanos . ويمكن تفسير ذلك وتبريره بأنّ الإغريق ، وقد جاؤوا من الغرب ، واجهتهم أولاَ سلسلة لبنان الغربية ، فاقتصر انتباههم واهتمامهم على هذه السلسلة الجبلية المشهورة بثروتها الخشبية . لذلك ظنوا أن اسم « لبنان »، الذي كان متداولاَ آنذاك لدى الشرقيّين، ينحصر استعماله بالجبل الغربي. واذ لم يجدوا اسماَ خاصاَ متداولاَ للجبل الشرقي، نعتوه بصفةٍ نسبية وسمّوه « مقابل لبنان » Anti-Libanos (١١) .  وقد شاع استعمال تسمية « انتي - ليبانوس » بعد اعتمادها في الطبعة اليونانية للكتاب المقدس المعروفة بالترجمة السبعينية ( Septante ) منذ منتصف القرن الثالث قبل الميلاد ، حيث نُقل اسم لبنان العبراني إلى اليونانية في بعض الأحيان ، باسم « انتي- ليبانوس » لان الذين قاموا بالترجمة رأوا أن المقصود من « لبنان » هذا ، في العهد القديم ، هو جبل الشيخ ( حرمون ) ، الذي يشكّل القسم الجنوبي من السلسلة الشرقية . لكن ، استنادا إلى المعطيات السابقة واعتمادا على أصول تسمية « لبنان » ، وهي شرقية ساميّة كما ذكرنا سابقاَ ، من الأصح أن تحمل السلسلة الشرقية اسم « لبنان » Libanos ، بینما يمكن نعت السلسلة الغربية ب « مقابل لبنان » Anti-Libanos لمن يريد تمييزها من توأمها السلسلة الشرقية.  

(يتبع الجزء الثاني : « لبنان » =  «جبل الطيوب » و  « لبنان  » = إسم  « حاكم جبّار » )



١- ِAbel. P.F-M, - "
Geographie de la Palestine", Paris, ed. Gabalda 1933, T.I, p.340
٢- Bochart,S., - "Geographia Sacra" P.II,I,I, C 42, col.678
٣- Losipue, S., - " Dictionaire Etymologique des Noms des Pays et des Peuples", ed. Klincksieck, Paris 1971
٤- إن عبارة « مدخل حماة » هي ترجمة الكلمتين العبرانيتين « لمباء حماة » اللتين تعنيان « إلى العودة نحو حماة ». فاللام هي «الى» و «باء» تعني « العودة » أو « المجيء » :
-
خلف، القسّ غسان، - « لبنان في الكتاب المقدس » ، دار منهل الحياة، لبنان ١٩٨٥ ، ص ١٩٥ 
٥- نشيد الأناشيد ٧:٤ 
٦- قضاة ٣:٣ 
٧- تثنية ٩:٣ 
٨- Josphe, F., - " Antiquites Judaiques" , trad. J. Weil, ed. Leroux, Paris 1900, TI, Liv. V.chap, I, . 309 (86) 
٩ - Guillaume de Tyr,- " Recueil des Historiens des Croisades", Paris 1844, XIIIeL., Imp. Royale, TI, 1ere partie, chap. XVIII, p. 583- chap.II, p.760- chap. X, p. 898
١٠ - حتي، فيليب، -  « تاريخ لبنان  » ص ٢٢ 
١١- وقع المؤرخ الأغريقي سترابون في خطأ كبير بالنسبة لتحديد إتجاه السلسلتين الغربية والشرقية ، لبنان وأنتيلبنان ، المتوازنتين، فائعتبرهما متعامدتين إلى حدّ ما مع الساحل ، إذ تبدأ الأولى كما يقول ، في مقاطعة طرابلس والثانية في اقليم صيدون وتتصلان معاَ بالسلسلة العربية من جهة الشرق. 

Comments

Popular posts from this blog

اسم لبنان في نصوص ايبلا - كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -

لبنان في التاريخ.- بقلم المؤرخ جواد بولس - بقلم ادمون الشدياق

اسم لبنان في النصوص الفينيقية - ب- إناء ليماسول الفينيقي ( القرن الثامن ق.م. ) كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -