الكنيسة المارونية والأرض والوطن والحرية - #الأب_ميشال_الحايك

 الكنيسة المارونية والأرض والوطن والحرية

المونسنيور ميشال الحايك
المارونية هي وطن وأرض وحرية، رسمت هويتها على مولدها وعلى تاريخها حتى النهاية. غير أني أفضل كلمة «المارونية» على كلمة «الكنيسة المارونية»، لكيلا يُقتصر الحديث على مظهر واحد من مظاهر الفكر والحياة، وهذه المظاهر هي عديدة بقدر ما هي متنوعة. سأذكر البعض من أهمّها، أي تلك التي تجلَّت من خلالها صورة عَبْرَ خمسة عشر قرنًا من التاريخ.
هذه المارونية نشأت في الأصل، «كطريقة قداسة» خطّها المتوحّد مارون، وسار عليها جماعة من تابعيه. ثم إنها، في القرن الخامس، زمن المجادلات اللاهوتية الكبرى حول شخص المسيح، فرضتْ نفسها كمدرسة لاهوتية تكلفت الدفاع عن عقيدة مجمع خلقيدونيه وتقلّدت الزعامة في كل سوريا الثانية. ثم، في بدء القرن الثامن، أصبحت مع إنشاء البطريركية مؤسسة «كنسيّة» ذات سلطة مستقلة، وفي القرون الوسطى، هي «أمة مسيحية» بالمعنى القرنوسطوي لهذه الكلمة. ومن القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، زمن الإمارات، هي محاولة إقامة دولة عصرية. وفي زمن المتصرفية من 1864 إلى 1914، هي نظرية وسياسة سورية عربية. وفي عهد الإنتداب وعهد الإستقلال، إنها تبدو مرادفة للقومية اللبنانية، دون أن تتخلى في عمق وجدانها الروحي والزمني عن واحدة من الخبرات التي تراكمت لديها، عبر تاريخها الطويل.
هذه المارونية إذن لا تنحصر كلها في «كنيسة»، ولا هي أيضًا تحدّ بأرض، لأنها، من شمولية إيمانها الكاثوليكي ومن انبثاثها الجغرافي في كل القارات، ومن تعدّد تعابيرها الثقافية، تتخطى حدود أي وطن معين. إنها، مسبب هذه المظاهر المختلفة، شهادة الشمول.
على أن هذه الثروة كانت لا شك تبدّدت، وهذه الشخصية تفككت لو لم يكن هناك، في مكان ما، مركزٌ محوري وُجد ليضمن الوجود ويعزّز الوحدة. هذا المحور هو لبنان، منذ أن نُقل إليه الكرسي البطريركي نهائيًا عام 939 واستقر أولاً في يانوح في أعالي جبال جبيل. وكأنما الغاية من انتقال البطريرك كانت لتكريس عقد الزواج الذي لا طلاق منه أبدًا بين الماروني والأرض اللبنانية.
من هذا القران سيولد شعب وينشأ بلد. إذ ان الأرض، لولا الماروني، لأصابها من القحط والبوار ما أصاب العديد من بقاع الشرق. كما أن الماروني، لولا الأرض، لظلّ لا شك هائمًا على وجهه من باب لباب حتى الضياع كما ضاع غيره.
ليس لي أن أحدثكم عن قصة هذا الهوى العظيم بين الماروني والأرض. كفاني، من هذا المرضوع، أن أقول بأن شعلة الحب بينهما لا تزال متأججة، وان كل هجر جسدي فُرض عليهما بالقوة، كان يزيد الحنين اضطرامًا والوفاء دعاما.
كان التفاهم تامًا، لأن التشابه كان كاملاً بين الإثنين: بين تاريخ هذه الأرض العريقة، وبين تاريخ هذا الشعب الحديث، بين طبيعة هذه الأرض وطبع هذا الإنسان. فقدر هذه الأرض وهذا الشعب أن يتلاقيا لمساكنةٍ لا انفكاك منها.
سأبيّن لكم بعض وجوه الشبه بين الماروني والأرض اللبنانية:
إن ما يميز هذه الأرض منذ بداياتها في التاريخ هو شموليتها. هنا، على شاطئها، تواعدت القارات الثلاث، أفريقيا بنارها، وآسيا بأسرارها، وأوروبا بمنجزاتها. هنا، أكثر من أي مكان آخر، تلاقت الأعراق في مهرجان لا تزال آثاره الحيّة مجسّمة في الطوائف القائمة. هنا، على هذه الأرض، عبد الناس، على ما أظن، أكبر عدد ممكن من الآلهة، آلهة اليونان والرومان تُضاف إلى خمسة آلاف اسم إلهٍ ابتدعتها الشعوب الساميّة. فلا عجب إذن إذا كان اللبنانيون الأولون اخترعوا، تحت وطأة ضرورة وجوديّة، الأبجدية أي أعظم وسائل اسلام، لتوضيح العلاقات السلمية وتأمين التواصل بينها وبين كل هذه العناصر والقيم التنوعة.
هذه الرسالة الشمولية التي قُدرت للبنان، قُدر للموارنة أن يتمرسوا بها ويتابعوها على الأرض نفسها. إنهم كانوا مُعَدّين لها. فهم، منذ بداياتهم، يحاولون أن يحفظوا كل الأمانات عقائديًا واجتماعيًا، أمانة لسوريا لأنهم منها، وأمانة لبيزنطية التي طبعوا بثقافتها وغُمروا بعطاياها، وأمانة لرومة لأنها عندهم المرجع الأخير لقاعدة الإيمان. ولكنهم، على رغم التضحيات التي بذلوها، لم يُوفَّقوا في الجمع بين هذه الأمانات البشرية والمسيحية جميعها. إنما سيُوفَّقون، لدى حلولهم في لبنان، في الجمع بين حاضر أرضه وماضيها كله، فينتسبون إلى كل هذا التاريخ لا إلى مرحلة من مراحله. ثم إنهم سيبحثون في لبنان عن فرقاء، ويعقدون المواثيق مع أي فريق، مسيحيًا كان أو غير مسيحي، شرط أن يكون مستعدًا لقبول التعددية. فإذا بلبنان الحديث يبدو صنيعة هذا التواثق الذي يعيد إلى الأرض وجهها الأزلي.
ولكنهم في النهاية ها هم يخسرون هذا الرهان نفسه كما خسروا من قبل كل رهاناتهم القديمة، عندما راهنوا على بيزنطية والفرنجة والعثمانيين والعرب. لقد بقي لهم على الأقل العزاءفي أنهم كانوا دائمًا أوفياء لذاتهم وللأرض.
غير أن فشلهم هذا في تحقيق التعددية السياسية يعوّض عنه نجاحهم على الصعيد الثقافي. وهذا خير ما أحرزوه منذ بدء تاريخهم. فمار مارون نفسه يمكن أن يكون أتقن لغتين، السريانية واليونانية، كما أتقنهما على كل حال تلاميذه، إذ ان هؤلاء كانوا يقيمون شعائر طقوسهم بالسريانية ويوقعون رسائلهم الرسمية إلى البابا والأمبراطور والمجمع باليونانية. ومن بعد ذلك، في العصور المتأخرة، زمن العباسيين، ها هو واحد منهم تاوفيل الرهاوي (المتوفي سنة 785)، رئيس منجمي الخليفة في بغداد، يترجم الإلياذة والأوديسيه من اليونانية إلى السريانية ويكتب تاريخ الأمم منذ بدء الخليقة، ودروسًا في الفلكيات.
هذه التعددية الثقافية لا يستبين منها، في ظلمة القرون الوسطى، سوى بعض شهادات مبعثرة. ولكنها ستتألق بنوع خاص بعد تأسيس المدرسة المارونية الشهيرة في رومه سنة 1584 وخليفتها مدرسة عين ورقة سنة 1797. من هذين المعهدين المشهورين انطلقت طائفة من العلماء الذين أنجزوا في حقل التبادل الثقافي أعمالاً جبارة تفوق بكثيرالطاقات البشرية الوضيعة والإمكانات المادية الحقيرة عند الموارنة. هؤلاء العلماء كانوا، في العصور الحديثة، أول من نشروا في الغرب تراث الشرق وأول من كانوا في الشرق صنّاع نهضته. لقد استطاعوا جيلاً بعد جيل أن يعيدوا بناء الجسور المتهدمة بين الشرق والغرب وأن يضمنوا استمرارية التعامل البشري بينهما على رغم الضغائن والقطائع. فلم تبقَ لغة واحدة من لغات الحضارات الكبرى غريبة عنهم، من اليونانية إلى السريانية، إلى اللاتينية إلى العربية إلى الإيطالية إلى الأنكليزية إلى الأيبانية إلى البورتغالية.
وهذا مؤتمرنا تبيان واضح عن نوع من أنواع العنصرة. أجل إن معرفة اللغات كانت تعتبر من تلك المواهب التي أفاضها الروح القدس. ولكنها أيضًا ميزة هذه الأرض اللبنانية التي وضعها خالقها على مفترق المدنيات والقارات. ولذا يبدو أن كل من يرفض واحدة من الحضارات التي لأجلها أبدعت جبيل لها رابطة الأبجدية يكون كمن نزع نفسه فانسلخ عن الجنسية اللبنانية الشمولية. من هذه النظرة، كلمة «ماروني» وكلمة «لبناني» هما مترادفان.
هذه هي المشابهة الأولى بين الماروني والأرض. إنها مأخوذة من التاريخ. أما الثانية فمأخوذة من الجغرافية، وإدراكها أصعب. سأشرحها كما يلي:
إن البحوث التحليلية النفسية تنير السبيل لمعرفة التراكيب النفسية عند الشعوب إنطلاقًا من المعطيات الجغرافية. فالأرض المسطحة تقابلها نفسية مسطحة يسيطر عليها وجدان مبسّط وأفكار رتيبة متساوية الشكل. أما الأرض ذات الأودية والمهاوي والمغاور والفجوات فيقابلها محل اللاوعي المجهول حيث تحتمي كل مخلّفات الأنا فتبني لها وجودًا خفيًّا. أما الأرض الجبلية فيقابلها في علم التحليل النفسي «الأنا الأسمى» (surmoi)، يعني هذا الكائن المثالي الذي يتصوره الإنسان لذاته ويحلم بتحقيقه.
إن لبنان، بطبيعة أرضه، هو جبل أو واد، والوادي جبل مقلوب. فهو يمثّل في المشرق كله الأعالي والأعماق الجغرافية والروحية أيضًا. والدليل هو أنه منذ قديم الزمن يكوّن قطب الجاذبية للبلدان المجاورة التي أخلّت فيه خيالاتها المرعبة وأحلامها البلورية. ففي مغاوره سرقت الحية «غرسة الحياة»، كما تصوروا، وعلى قممه، من حرمون وسنير، تتهيأ عروس «نشيد الأناشيد» للبروز في عرسها. وفيه تحتمي لتتفتّح تلك العقول العميقة، والنفوس العالية التي تمثل المجموعات الثقافية والدينية حاملة قلق الشرق وأشواقه إلى المطلق، تلك المجموعات التي كان الشرق يخنقها أو يكمّمها، لكيلا تعكّر عليه طمأنينة نفسه.
من هذه المجموعات كان الماروني، وهو ساكن الجبل والوادي أبدًا، يمثل أكثر العناصر إقلاقًا على الإطلاق. وإذ يتجرّد على الأمبراطوريات ويعيش في رعب مستمر منها، تتراكم في نفسه أشباح اللاوعي وأحلام الأنا الأسمى، فإذا نفسيّته ملتقى للهوس وللخسوف، للتهور وللتبرّم، للحرمان للتبذير. هذه العوامل نجد آثارها مطبوعة على تاريخه كله، على منجزاته السياسية والإجتماعية والفنيّة، وبخاصة على بعض المصائر الفريدة مثل جبران وشربل: فجبران المأخوذ بأعماق مشهد قاديشا يتوق إلى الذوبان في حلولية كونية، بينما شربل، من قمة إلى قمة، يتابع مسيرة اللانهايات.
على هذين الوجهين، ترتسم الطبيعة التي أنجبتهما والتي انعكس عليهما فيها كل عنفها وسخطها وتطرّفها. فالتطرف هو هو نفسه الذي قاد مار مارون إلى جبل قورش حيث عرض لعنف الطبيعة، قاد مار شربل إلى الصومعة فوق جبل عنّايا، وقاد الفتيان إلى الموت على تلة الأشرفية أوغيرها من الجبال، وقاد المهاجرين إلى المغامرة حتى أطراف الدنيا. فالشعب الماروني لا يتعرف حقًا إلى ذاته إلا في ممارسة هذا التطرف، ولا يدرك قياسه الحقيقي إلا في حالات الإحراج، لدى الأزمات القصوى. إنه ابن الجبل وقد ورث من الجبل كل البأس والحدّة. على الجبل ولد أو في الوادي، وهناك نشأ وإلى هناك معاده. لقد عرفه الآخرون هكذا ابن جبل. وهذا ما يطرح بينه وبين معظم أهل الشرق تلك الجدلية المخصبة والخطيرة معًا التي تقوم بين رجل الجبل الصارم وبين رجل السهل ابن السهولة والرخصة.
وهناك شبه ثالث بين الماروني والأرض: كلاهما يمثلان الشواذ في القاعدة؛ والشواذ لا يؤكد القاعدة، كما يقولون بل يكسرها. القاعدة هي نظام ترديد، مؤسسة تقليد، سياق رتيب، بينما الشواذ هو مجال الإبداع والخيال والثورة والتجديد والحرية. ففي مشرق وحدوي، توحيدي، موحد، واحد الجغرافية واللغة والفكرة والسياسة والعبادة، لبنان يشكل الشواذ على كل هذه المستويات. جغرافيا هو البلد الفريد الذي لا تصل إليه الصحراء والبادية، وهو ثقافيًا تعددي، سياسيًا ديموقراطي. باختصار إنه حالة جمع في كل شيء، وهذه هي فرادته. فالموارنة الذين اختاروه وطنًا هم نظيره، منذ البداياتن شواذ: شواذ في العقيدة، لأن الماروني هو وحده كاثوليكي، منذ قرون عديدة، وبينما يتوجهون من حوله قبلة القسطنطينية ومكة، هو كان يتطلع صوب رومه. وهو شواذ في السياسة، لأنه وحده يطلب وطنًا بينما مَن حوله يبتغون امبراطورية بيزنطية أو أموية أو عباسية أو عثمانية.
وهو شواذ في الفكر لأنه يبحث عن الحرية الشخصانية تجاه المطلقات التي تفرضها الفئات الدينية أو القبلية أو القومية على أصحابها.
هذه النظرة المثناة إلى الوطن وإلى الحرية قد أدخلها الماروني إلى الشرق الذي لم يعرف، مدى خمسة ألاف سنة من تاريخه، سوى حكم الطغيان أو حكم الفوضى. فالموارنة الذين نشأوا على ضفاف العاصي – والعاصي سمي بهذا الأسم لأن مياهه تصب في الشمال – ساروا كالعاصي عكس الشرق فتبعوا مجرى النهر حتى منبعه في لبنان، منبع العصيان. وهم، منذ بداياتهم، عندما أقاموا بطريركية مستقلة، ارتكبوا عمل عصيان بجسارة مذهلة. وإنهم لم يكتفوا بإقامة بطريرك لهم دون أن يستأذنوا امبراطور بيزنطية والخليفة الأموي، بل رفضوا أن يستميحوا من أي سلطان زمني فرمان التثبيت. وظل رفضهم قائمًا منذ عهد الأمويين حتى نهاية حكم بني عثمان. هذه اللاشرعية التي تجددت ممارستها مدة ثلاث عشر قرنًا هي خير ما يحدد لنا طباعهم ومشروعهم ومصيرهم. ومصيرهم هذا، كمصير الأرض اللبنانية نفسها، كان كفاحًا مستمرًا لانتزاع واحتفاظ وفرض حقهم بالغيريّة، أي حقهم بأن يكونوا هم هم لا غيرهم.
أجل لقد اتخذ الماروني، من حين لآخر، كما اتخذ لبنان، برضى منه أو غصبًا عنه، اسمًا غير اسمه. فسمّي الماروني، كما سمّي لبنان، بيزنطيا، فرنجيًا، تركيًا، سوريًا، عربيًا الخ... ولكن ما من لقب من هذه الألقاب التي أُلصقت به فاتخذها عنوة أو طوعًا كانت تستطيع أن تحدّد شخصيته المتفردة بذاتها، إلا اللقب اللبناني الذي وجد فيه نفسه والذي أصبح مرادفًا لاسمه. لقد اتخذ الماروني الإسم اللبناني فتسمّى لبنانيًا فحسب، بينما ظل بنوه طويلاً يُعرفون لا باسم عئلاتهم بل بأسماء أرضهم وقراهم، فيقال العمشيتي والحاقلاني واللحفدي والأهدني والبشراني والحصروني والعاقوري الخ... كأنما الأرض اللبنانية هي شجرة العائلة عند الموارنة. فهم في عكس معظم شعوب الشرق التي لم تعرف الأرض كمرعى للبدو أو كملك للسلطان. أما هم فقد كانت لهم منذ البدء علاقات شخصية مع الأرض، مع فجواتها وحيطانها ومعابرها. فترابها مجبول بعرق جبينهم، كما أن مياه قاديشا تجمعت من دموع التائبين ودماء الشهداء حيث جاءت العذراء لشرب يوما كما يقول التقليد الشعبي.
هذه الأرض تعلق الماروني بجنياتها أجيالاً فاستقل وعمّر وغرس وزرع، كأنما هو يقيم احتفالاً طقسيًا وكأنما كل الإقتصاد الماروني يحمل طعم الأسرار وعمق الليتورجيا. فهذا القمح لخبز القربان وهذه الكرمة لخمره، وهذا الزيتون لميرون العماد ولتكريس اليدين ومسحة المنازعين، وهذه التوتة لنسج أغطية المذابح وثياب العرس. وبالنتيجة الأرض عندهم هيكل والفصول الزمنية طقوس، يملأونها تسبيحًا وشكران وأعمال توبة ورحمة ورجاء.
أرض لبنان لا تزال منذ ألف سنة المحور الذي يدور حوله المصير الماروني. أجل إن الموارنة لم يولدوا جميعهم في لبنان، والذين ولدوا فيه لم يقطنوا كلهم. لا يسكن فيه منهم سوى الربع أو الثلث والباقون خارجون. ولكن، أنّى وجد الماروني، لقد كان، حتى السنوات العشرين الأخيرة، موجهًا قبلة هذا المحور تشدّ به إليه نزعتان كشف عنهما التحليل النفسي الحديث: شهوة الموت تعيده، بالحلم أو بالواقع، إلى حيث ولد، ليموت هناك ويمتزج رماده بتراب الأرض التي أُخذ منها. وترافق شهوة الموت هذه نزعة الحياة: أي هذا التوق للعودة إلى مقرّه، إلى رحم أمّه ليستقبل هناك الحياة من مصدرها نفسه.
بهذا الأستقطاب المثنى، أي نزوة الموت ونزعة الحياة يتمّ التوق البشري بكماله. وهو ليس وقفًا على الذهنية المارونية، بل إنه شعور يلازم الشعوب كلها. حتى إن بعض الطيور والأسماك نفسها، متى أحست بدنو أجلها تحاول العودة إلى حيث ولدت فتموت هناك. ولكن قد يكون هذا الإحساس أشد حدّة عند مسيحيّي الشرق من غيرهم، وقد أصبح لبنان عندهم، أقروا ذلك أم كتموه، هو القبلة حيث يتجه بهم التوق إلى أرض وإلى حرية غير منقوضتين. ولذا فكل مرة عصفت بلبنان رياح الموت أو هدرت به مياه الحياة أحسّوا هم أيضًا بلحمهم ودمهم الإحساس نفسه. هذا يعني أن النصيب الدي يُقدَّر للموارنة هو النصيب نفسه الذي ينتظر مسيحيي الشرق. فليأخذ الجميع علمًا بأن نهاية الموارنة هي بدء نهاية المسيحية الشرقية. ونهاية المسيحية الشرقية هي حكم الإعدام على كل الأتنيان والكيانات الثقافية التي تمثل خير الخطوط للخروج من عصور القرون الوسطى حيث يخشى عليه من الغرق فيها. وبكلمة أخرى، إن مشروع إبادة الموارنة أو إن مشروع تعطيلهم ثقافيًا وسياسيًا يشكل اغتيالاً للمشرق وبخاصة للعروبة والإسلام. والدليل هو أن الخطب الذي حلّ بهم هو الآن يدور كطير أسود في سماء الشرق باحثًا عن فريسة جديدة يخطفها. فالمأساة اللبنانية في السبعينات تبدو وكأنها تمرين إعدادي للفواجع التي ستحل بدول المنطقة في الثمانينات. لقد اختبر الموارنة في القرون الثلاثة الأخيرة كل أنواع الحياة للمشرق كله. وها هم اليوم يختبرون الموت ليدلوا كل واحد على أية ميتة سيموت بها بدوره.
بعد أجيال من الكفاح والبذل، أترى أتت أخيرًا ساعة موت المارونية.؟ للجواب على هذا السؤال الخطير سأستعيد أسطورة فأعيد تركيب عناصرها على الشكل التالي؛ وها هي باختصار:
حتى الآن لقد استطاع الماروني أن يصد الأخطار، ويبقى مستمرًا في أعماق الأرض التي أحبها وفي أعتق حيث أنزل تاريخه، نماذج الرجاء والبقاء. لقد استلهم ليبدد الخوف وينزع عن نفسه أساطير الأرض، مثل أسطورة أدونيس وفينيق، التي ابتدعتها وقدستها فينيقيا مخلفة لأبنائها، منذ سحيق الزمن، أسبابًا للثقة بأنهم سيبعثون كل مرة من رمادهم كالفينيق، وسيعودون كأدونيس إلى الحياة لكل ربيع جديد.
ولكن هناك أبعد من الأسطورة: هناك الإيمان، فالماروني، على هذا المستوى الإيماني، لا يتمثّل بالفينيق المشتعل على محرقته في الصحاري العربية، كما تقول النصوص، ولا يمثّل نفسه بأدونيس المضرّج بدمائه على صخرة أفقا، بل يرى نفسه في صورة المسيح الذي كم من مرة بيع وسُلّم وحوكم وصلب ونزل إلى الجحيم، ولكنه كان كل مرة يقوم فيصعد إلى سماء الشرق. وهل من عجب في هذا؟ فالموارنة الذين هم شهود المسيح في هذا الشرق الشاهد الآلام يحملون في أجسادهم آثار موته التي هي نفسها علاقات قيامته. ولن يبرحوا يسيرون في درب الصليب إلى أن يموت الشرق كله عن ذاته، وعن مخلفاته وأقداره وأشباحه وعصبياته، ويبعث وجه إنسان جديد على أرض جديدة. فإذا أخفق الموارنة أو نجحوا ففي اخفاقهم كما في نجاحهم معان وأبعاد أوسع من إطار طائغتهم ومن حدود تخوفهم. في مصيرهم الخاص يتحقق أو يتحطم مصير الإنسان المشرقي، لأن الإنسان المشرقي سيكون حرًّا أو لن يكون. وهذه الحرية قد جسّد الموارنة قضيتها وحملوا مشعلها، منذ أكثر من ألف عام، بينما كانت الشعوب والفئات من حولهم تحني رقابها. لأجل الحرية كانوا هم بالأمس كما هم أو كما يجب أن يكونوا اليوم، يفضّلون أن يموتوا واقفين حتى لا يعيش الشرق راكعًا على أقدام الأباطرة والحلفاء والسلاطين ومن خلفوهم لنا.
من الضرورة أن نكرر الكلام قبل أن نفرغ منه: على رغم من أن لبنان هو الموقع المحوري، نقطة البيكار في الجغرافية المارونية، لا يمكن أن نحصر المارونية بين النهر الكبير وراس الناقورة، ولا بين نهر الموت وجسر المدفون. ان مساحة المارونية هي بالحقيقة والواقع أرض البشر، فهم موزعون في مختلف أقطار الأرض والقول صادق على المستوى الروحي؛ فالقديسون الذين أنجبتهم المارونية هم رسل المطلق للعالم: من مار مارون إلى مار شربل إلى رفقا بيان يعلن أن الأولية البطولية هي للروح، وحينما يكون الروح فهناك الحرية، وينتهرون بها كل ضمير.
وكذا على المستوى الفكري: فالمفكرون والموارنة من تاوفيل الرهاوي إلى الحاقلاني إلى الدويهي إلى السمعاني إلى جبران كانوا كالمنارات المشعة في بغداد وروما وباريس وبوسطن تضيء طريق اللقاء للحضارات والمدنيات.
وكذلذ في السياسة، فالموارنة لم يرتضوا أن يحصروا في وطن قومي، بل كانوا، وهم ورثة كنيسة أنطاكية وسائر المشرق، يمدّون يدهم إلى الآخرين، إلى البيزنطيين والعرب والفرنجة ثم إلى مختلف الطوائف غير المسيحية، إلى الدروز فالشيعة فالسنّة، ليعيدوا مع هؤلاء بناء مساحة الأبرشية الأنطاكية المشرقية، تارة في صورة سوريا الكبرى وطورًا على شكل الهلال الخصيب، وعند بعضهم في إطار يضم الجزيرة العربية.
في سبيل تحقيق هذه المقاصد الطموحة أحيوا اللغة وجددوا المجتمع وسخّروا وسائل العصر الفعّالة واخترعوا نظرية القومية ورسموا خارطة الوطن العربي. وهكذا يكونون صنّعوا ووضعوافي خدمة الإديولوجية العربية السلاح الذي به هم اليوم يُقتلون.
لقد فشلوا في إقامة مشروع مشرق حرّ، واحد وتعددي، علماني وإيماني. ولكنهم استطاعوا، بدل ذلك، أن يكوّنوا في لبنان مشرقًا مصغّرًا: فإذًا لبنان هذا هو المشرق البديل عن ذلك المشرق الضائع الذي لم يولد بعد. إذ إنه كان يستقبل ويستضيف كل اتنيات (أقوام) المشرق الذين سلموا من المجازر الابادية، كالأرمن والأشوريين والسريان، أو أولئك الذين سيّبت قضيتهم كالأكراد والفلسطنيين، أو أولئك الذين فرّوا من وجه السلطويات الأقليمية ليمارسوا حرية الفكر والفن والعمل والحياة. كل هذه الجماعات التي نبذها المشرق كانت تجد في لبنان ملاذًا تؤكد فيه شخصياتها وتمارس حرياتها.
ولكن هذا اللبنان الرمز (رمز الشمولية المشرقية والعالمية) قد تحطّم كدولة وتمزّق كأرض. وها هم الموارنة اليوم يرجعون إلى عريهم الأول، معزولين عن الشرق، متروكين من الغرب، كما كانوا زمن نزوحهم وعبورهم إلى أرضهم هذه الموعودة لبنان.
فماذا تراهم كسبوا من التزامهم بالغرب وتكنيتهم بالعرب وتسميتهم بلبنان؟ بعد كل هذا الجهاد، يجدون اليوم نفسهم كلما فكروا، مرميين في ماضيهم الأول، مرجّعين إلى هويتهم البكر، فإذا هم اليوم موارنة وبس، مع نزع الألقاب وقطع الأنساب على تذكرة هويتهم، لم يبقَ لهم سوى اسمهم الحقيقي، وقد محيت عنه علامات الإلتباس ونزعت الألقاب المستعارة فتحرر من التسميات الوهم. بسبب هذا التعري، قد يشعرون أنهم أخفّ ثقلاً مما مضى للسعي إلى تسلق جبل لبنان من جديد حتى قممه العالية حيث يُستنشق الهواء النقي. أتراهم يعرفون أن يسترجعوا من هناك فلسفة الهواء الطلق في العراء (Upaihos bios) التي ابتدعها مار مارون، حسب قول مؤرخه ومطرانه تاودوريطوس القورشي، فيعرفون من جديد أن وطنهم الحقيقي هو مساحة روح.
إلى هناك يدعوهم القديسون والشهداء فيهم مذكرينهم بالإنجيل القائل ان «الطوباويين الذي يرثون الأرض» هم المدعوون إلى ملكوت الله. فالأرض هنا هي رمز الملكوت السماوي الذي يدرك بالإيمان. إذن عندما يبذل الموارنة حياتهم في سبيل أرضهم، لا يدافهون عن مقام ترابي بل عن الإيمان الذي يجسمه ويرمز عنه هذا التراب. أما إذا سقطت عن الأرض المادية رمزيتها الروحية، فالأرض ليست سوى كومة غبار فانية. وهذا ما عرفه الموارنة دومًا، فلبنان هو عندهم جمال قيمة. أولا بسبب المعطيات الروحية التي يرمز إليها ويدل عليها، فإذا فرغ من هذه القيم أصبح صخرة جرداء، ولهذا فهم لم يتورعوا عن تسمية أعلى قممه بكلمة كانت تكتب محرّفة في الكتب اتحياء: فيقولون طيمارون أي مؤخرة مار مارون.
إن في هذا القول الخشن، الذي ظل يتردد حتى بداية القرن العشرين، إعلان قاطع عن الأوليات التي يجب التذكير بها اليوم أكثر من كل يوم مضى: وهي أن المارونية مشروع حرية ولبنان هو رمزها المرفوع على مدخل قارات العالم العتيق، كما أن تمثال الحرية منصوب على مدخل العالم الجديد.
وهذا التمثال، يكاد يسقط عن قاعدته ويهوي في البحر تحت ضربات الصواريخ والقذائف والمدافع التي توجه إليه منذ عشر سنوات من كل مصانع الدمار، الموت. إلى متى سيصمد بعد؟ كل شيء يدل على أنه صامد طالما بقي موارنة يموتون في سبيله ليحفظوه للحرية وللآخرين ولهم، بعنادهم المعروف وتطرفهم المألوف، وادعائهم المكشوف، وتهورهم المخيف.
أما إذا كفّوا عن الوقوف والمطالبة والمعاندة، لسبب من الأسباب، بسبب يأسهم أو انسحابهم أو اغترابهم أو نفض التراب اللبنانية عن أرجلهم، أي أنهم إذا تركوا «الفخار يكسر بعضه»، وراحوا، عندئذٍ «الدوره موش عليهم، موش علي بيروح بل علي بيبقى»، الويل لكم إذا تركوكم. إذا كان الموارنة جحيم، فإذا تركوه أصبح عدم، والعرب فيه صاروا «عبر».

15 Comment

Comments

Popular posts from this blog

اسم لبنان في معناه اللفظي (الجزء الاول) - كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -

اسم لبنان في النصوص الفينيقية - ب- إناء ليماسول الفينيقي ( القرن الثامن ق.م. ) كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -

اسم لبنان في نصوص ايبلا - كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -