سيّدة إيليج" الأب ميشال الحايك (المحاضرة الخامسة من زمن الصوم، أُلقيت من الإذاعة اللبنانية في أول أذار 1977)

  سيّدة إيليج" الأب ميشال الحايك


(المحاضرة الخامسة من زمن الصوم، أُلقيت من الإذاعة اللبنانية في أول أذار 1977)


 لقد تكاثرت علينا التذكارات في هذه الفترة العصيبة في تاريخ لنا كلّه عصيب. ومن هذه التذكارات ما هو حديث العهد يوجع القلب ويعذّب الذاكرة. ومنها ما هو قديم لا يشعر به إلا الذين أوتوا حسًّا مرهفًا تنبض فيه رعشة التاريخ.


 في الأسبوع الفائت دعونا من هذه الإذاعة للاحتفال بالذكرى المئوية الرابعة لمولد جبرائيل الصهيوني الإهدني، مدرّس اللغات الشرقية في باريس، المشرف على نشر الكتاب المقدس باللغات السبع، تلميذ المدرسة المارونية في روما، التي قلنا عنها أم مدارس الشرق أجمع، وأسفنا أن تكون على رغم توسلاتنا، مع أنها معلمة الحاقلاني والدويهي والسمعاني والصهيوني وغيرهم ممّن لقنوا الغرب تراثات الشرق ونفخوا في الشرق روح النهضة فأقاموه بعد أجيال الإنحطاط.


الأمكنة المقدّسة


 بعد جبرائيل الصهيوني، بعد ذكرى الرجال، موعدنا الليلة في ذكريات الجبال. سنمرّ على الساحل حتّى جبيل ونرقى صُعدًا في القرى إلى الموعد المضروب حيث تنتظرنا، في منحنى وادٍ جبلي، عمارة وادعة أو بالأحرى قبو محفور في تراب المنحنى وصخره، على ضفّة النهر. مدخله يراه وانما الداخل إليه يرى كنيسة مربّعة رائعة الهندسة بنيت على أصول الفن الشائع قبل الأشكال القوطية الكبرى. ولنا عن هذا الفن بعض نماذج لا تزال قائمة حتى اليوم في الجبل.


 لقد عنيت سيدة إيليج في ميفوق. إنها أعرق كراسي البطريركية المارونية في لبنان. ركزت هناك مقامًا وملجأً وبيت صلاة. والمقام ليس "صرحًا" بل هو إلى المغارة أقرب شكلاً. لم يُبنَ على قمّة بل في ملتوي الوادي، في مضيق بين جبال عاصية. حجارته من الدبش بلون التراب حتى لا يُعرف منه، تحت شجرات الجوز والدلب القديمة.

 حائطه الشرقي ضفة النهر الفاصل بين بلاد جبيل والبترون، تدخل إلى الكنيسة بعكس السير من الشمال في الوادي تحت قنطرة عتيقة.


 على الحائط العالي كُتب بالسريانية خطٌّ يؤرّخ زمن تجديد البناء، وهذا تفسيره:


بسم الإبن الحيّ الدائم. في سنة 1746 مسيحيّة تجدد هذا الهيكل على يد الأخوين الكاهنين أمّون ومنيلا (أو"مينغ" أو "ميخائيل"، الكلمة غير مقروءة تمامًا بعد). وهو من صنع أربعة بطاركة، بطرس وإرميا ويعقوب ويوحنا سنة 1121.


 لقد كانت بداية تشييده إذن سنة 1121، وكان تجديده عام 1764. أما نهاية بنائه فيدلّ عليها خطّ آخر كُتب بالسريانية أيضًا على بلاطة لصقها المجدّدون على المدخل فوق القنطرة، بشكل مقلوب فأصبحت خطوطها تقرأ من أعلى إلى أسفل. وهذا تعريبها: "بسم الله الحيّ إلى الأبد. في سنة 1588 يونانية تم هذا البناء، بناء دير والدة الله مريم صلاتها معنا آمين. على أيدي الخطأة داود ود... وس (هذا الاسم غير مقروء) وبطرس ويوحنا".


 والسنة 1588 يونانية من حساب الاسكندر توافق العام 1277 مسيحية. فيكونهذا العام هو التذكار المئوي السابع لاتمام بناء سيدة إيليج في ميفوق. فمن حقنا الدعوة إلى الإحتفال بيوبيلها ليقبل الشعب إلى زيارة هذا الأثر المؤثّر راجعًا الى ذلك الينبوع يغسل في مائه قلبه ونفسه ويتنسَّم من الوادي روح القداسة وعبق البراءة والطيبة المسيحية الأصيلة. ومن حقنا ان ندعو اخوتنا الرهبان الى اقامة صلاة لا منقطعة فيه تجدّد حياة المحبة بين الناس. وليت لأبينا السيد البطريرك ان يفتتح طريق الحج الى ذلك الوادي حيث عاش أسلافه الصالحون.


 يبقى أن نقول أن إسم إيليج قد ورد قديمًا في عداد الأمكنة الأسقفية من بلاد مابين النهرين، حسب الكتابات السريانية دون ان نستطيع الآن استرجتاع النص الى الذاكرة ولا تحديد المكان. أتراه فارسيًّا؟ والأصح أنه مأخوذ معن لفظة "هليوس" اليونانية ومعناها "الشمس" ، فيكون المعبد بني على أنقاض هيكل لإلهة الشمس. ثم أن هنالك لفظة المانية مأخوذة من دون شك عن اليونانية تقرب من كلمة إيليج، ومعناها القداسة كمعنى "قاديشا" بالسريانية. وسيدة إيليج، "اي السيدة القديسة" هي، في التاريخ الماروني، قبل قاديشا أو هي قاديشا الأولى. إنها موعدنا.


 الداخل اليها تحت القنطرة التي اسودّت من عبق البخور وقناديل الزيت الساهرة، كأنه داخل إلى غسق اليمبوس. هنا لا يمكنك إلا أن تُصَلِّي بالسريانية، لغة النفوس الرهينة، لغة الإستغاثة الخافتة بالرحمة، لغة التوبة والدموع. وما أكثر مثل هذه الأدعية في كتب العبادات العتيقة حيث تحتمي الكآبة من الخوف بترقب الخلاص:


" ليس ، يا رب، لنفسي الخاطئة غير فلسين كأرملة الإنجيل:


خذ هاتين الدمعتين الحقيرتين من عينيّ وأعطني غفرانك وحنانك العظيم".


 من هذا المعبد كان البطريرك يرفق حقًا اسمه بصفة "الحقير". هنا البطاركة عاشوا دون استمرار واستقرار بين سنة 1121 و 1440، كما سنرى. هنا صلوا وبكوا وتعذبوا وغفروا وأحبوا المسيح خاطف القلوب. في الهيكل نفسه كان مقر البطريرك، ترقى إليه بدرج وضيع لتصل إلى غرفة بائسة كانت كل قصره من الدنيا، فثروته فيها كُتُب عتيقة عليها اصفرار الشمع والدمع، ووليمته فطور على جسد الرب، وليلة سهر للتضرع، ونهاره همٌّ على الشعب وتعب في الأرض. 


 أولئك كانوا حقيرين بالممتلكات كبيرين بالذات. يصومون نصف السنة واكثر، ويلبسون المسوح ويعمّمون رؤوسهم بإسكيم رهباني ويغطّون أجسادهم النحيلة بمرقّعة زرقاء. لا يأكلون حياتهم كلّها لحمًا ولا يشربون خمرًا إلا من كأس الخلاص. ولا يحملون عصا إلا من خشب يتوكلون عليها لقومات الصلاة الأربع في كل هزيع من الليل، يساهرون الملائكة وإذا ناموا فوجودهم إلى القربان.


 "إخلع نعليك من رجليك، فالمكان هنا مقدس". إن من قدّر له احساس بالأقداس لا يتمالك عن القشعريرة الروحية. ومن أعطي بعض إلمام وشعور بالتراث الروحي يتحرك هنا وجدانه على رنين الأسماء المتواردة كوجوه بيضاء آتية من منازل الملكوت: بطرس، إرميا، دانيال، يوحنا...عن هؤلاء كان الكتاب يتنبّأ في الرسالة الى العبرانيين (فصل 11، آية 32- 38) حيث يقول: "انه ليضيق في الكلام لو جئت أخبر عن دانيال وارميا وشمعون ويوحنا... أولئك الذين بالايمان قهروا الممالك ونالوا المواعيد وسدّوا اشداق الاسود واخمدوا حدّة النيران ونجوا من حد السيوف وتقووا من ضعف. فمنهم عُذبوا ولم يشأوا النجاة بأنفسهم رغبةً منهم بقيامة أسمى. وآخرون ذاقوا السخرية والسياط والقيود والسجون. رُجموا، نُشروا ماتوا تحت النطع، تشردوا لابسين جلود الغنم والمعز، معوزين، مضايقين، مجهودين، تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض. هؤلاء لم يكن العالم يستحقّهم. "إننا لأجلك نُمات كل يوم، وقد حُسبنا كالغنم للذبح".


 هذا ما قاله الكتاب وكأنه يصف حالهم وحقًّا يضيق بنا الكلام لو جئنا نقصّ سيرةً طويلة الأمد على فسحة ضيقة من الأرض. إنما نكتفي بإحياء بعض الفصول التي وصلت منها الينا، بينما نحن سائرون حجاجًا في أول زيارة إلى سيدة ايليج في يوبيلها المئوي السابع.


 المنطقة كلها تشكل المجال حيث تمركز الموارنة اول ما جاءوا مهاجرين من سهول سوريا الثانية للاعتصام بوعورة الجبال. لقد اتَّبعت احدى قوافلهم الأولى في نزوحها ضفاف العاصي حتى البقاع ومنه تسلقوا الجرد في اعالي بلاد جبيل. لا نظن أن دير مار يوحنا مارون في كفرحي هو اول أديارهم البطريركية، اذ ليس ما يثبت ذلك سوى التقليد الشعبي، ولكن من الأثبت على ما يبدو من استقراء النصوص، ان الكرسي البطريركي انتقل نهائيًّا الى لبنان بعد ان خرب دير مار مارون في سوريا بسبب "تواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان"، كما قال المسعودي. وكان الإنتقال عام 939 والاقامة في سيدة يانوح، بين قرطبا والعاقوره، حيث لا تزال اثار الحريق ظاهرة في فناء كنيسة مهدمة واضحة المعالم، اسمها "مار جرجس الأزرق". هذا أول مراكزهم بناه يوحنا مارون من الحجر الازرق كله "في غاية الصنعة والشرافة"، كما يقول الدويهي.


والشاهد على قدم عهدهم في منطقة بلاد جبيل هو ان معظم البطاركة الذين صحّت لنا بهم معرفة تاريخية راسخة هم من تلك القرى التي نمرّ بها في طريقنا إلى إيليج. على الساحل: الصفرا، حالات، جبيل. ثم في الجبل: عمشيت، دملصا، الكفر، شامات، حاقل، ميفوق، مع انعراج إلى حجولا، هابيل، لحفد، وانطلاقًا في الجرد: إلى جاج، العاقورة، كفيفان، رامات، حردين، حدشيت. في هذه القرى كان للبطاركة، في العهد الإيليجي، مقامات موقتة زمن الاضطهاد والتخفي. ومن واد إلى جبل تتعاقب تلك الضياع حاملةً في اتضاعها وحشمتها ذكريات أولئك البطاركة القديسين الذين كانوا يسيّرون شعبهم ويوجّهونه وليس لهم من وسائل العالم لا مال ولا سلاح ولا جيش ولا عتاد ولا مذياع ولا صحافة، بل شعشعة الوجه وألق الروح والحياة المبذولة في عمل افتداء قرباني محض: "هذا هو جسدي، هذا هو دمي فكلوا واشربوا". واذا كانت لهم رابطة بالحركة الصليبية في تلك العصور فمن حيث أنهم كانوا حملة صليب لصق بوجودهم منذ البدء، قبل عهد الصليبيين وبعده، فكان كلَّ نصيبهم من الوجود.


أزمنة القديسين


 سنذكّر بأسماء بعضهم من الزمن الايليجي. بطرس الاول انتخب سنة 1121، وهو الذي ترك يانوح بانشاء ايليج. غريغوريوس الثالث من حالات الذي جاء سراً «ورؤساء الملة المارونية وعلماؤها الى مدينة طرابلس (1131) وعلى يد الكردينال غوليلمس قاصد البابا زخيا حلفوا له الطاعة واعطوه خطوط ايديهم انهم لا يتمسّكون بغيره ولا يكرزون الا باسمه». وهكذا اقتدوا بالفرنجة من الامارات الساحلية، مبايعين البابا الشرعي ضدّ لاوون مغتصب الحبرية العظمى. يعقوب الثالث من رامات. ثم يوحنا اللحفدي الذي انتقل الى دير السيدة في هابيل «وهو موضع معطاش فاما زال يشرب من مياه البواليع حتى بنى فيه بئراً وديراً جليلاً»، كما انه الّف صلاة قربانية (نافور) محفوظة حتى الآن. ومن بعده ارميا العمشيتي الذي كان اول بطريرك قصد روما فحضر المجمع اللاتراني عام 1215. وقد ذكر ابن القلاعي انه لما كان يقدّس بحضرة البابا وانتهى الى رفعة القربان فرفعه بقيت «الشيلة» معلقة في الخواء فوق رأسه. فذهل البابا وأمر بنقش صورة تذكارية لهذه الآية على جدار كنيسة القديس بطرس القديمة. ولما كادت تمّحي خطوطها جدّدها البابا زخيا الثالث سنة 1655، وقد شاهدها الدويهي حين كان طالباً في روما. وهذا البطريرك هو الذي تسلّم البراءة البابوية الاولى التي قضت على الموارنة بالتشبّه بالكنيسة الرومانية «في كل شيء». وقد توفي عام 1230، فخلفه دانيال من شامات الذي سكن كفيفان ثم الكفر في دير مار جورجيوس، وقد عرف عهده فترة من الهدوء أقبل الموارنة فيها على الزراعة وتشييد الكنائس. ومن بعده يوحنا الجاجي فشمعون الثاني الذي راسله القديس لويس ملك فرنسا من عكّا شاكراً اياه لنجدته، وراسله البابا اسكندر الرابع مثنياً عليه لاستقباله فلول الفرنجة الهاربين من انطاكية اثر سقوطها عام 1268.


 ولكن خلفاءه سيدفعون باهظاً ثمن هذه العلاقة المريبة مع الفرنجة في نظر السلاطين الطغاة. فهذا البطريرك دانيال الحدشيتي يقاوم جيوش السلطان قلاون الزاحفة على طرابلس حتى سقطت بعد حصار 33 يوماً. فصعدت عساكر المماليك «الى وادي حيرونا شرقي طرابلس وحاصروا اهدن حصاراً شديداً وملكوها بعد اربعين يوما من شهر حزيران (1283) وسلبوا ما وجدوا فيها وخربوا القلعة التي كانت في وسطها والحصن الذي على رأس الجبل. ثم انتقلوا الى بقوفا ففتحوها في شهر تموز وقبضوا على اكابرها وارقوهم بالبيوت ودكوها الى الارض واكثروا من النهب والسلب. وبعد ان اعملوا السيف باهل حصرون وكفرسارون ذبحوهم في الكنيسة. فهرب أهلها الى العاصي وهي مغارة منيعة فيها صهريج ماء فقتلوا من ادركوه وخربوا الحدث... ثم هدموا جميع الاماكن الحصينة ولم يستطيعوا سبيلاً الى فتح قلعة حوقا التي قبالة الحدث...» فأشار عليهم احد الخونة المعروف بابن الصبحا ان يحوّلوا مياه النبع من فوق بشري ففعلوا واغرقوا المعتصمين في المغارة. 


 أما البطريرك دانيال «فلم يتمكنوا منه الا بعد أن أمسكوه بالحيلة». كما قال المؤرخ الحريري، «وكان امساكه فتحاً عظيماً»، أعظم من افتتاح حصن أو قلعة».


 ومن بعده كان البطريرك ارميا من دملصا، قرب عمشيت، الذي يخلط عادةً بينه وبين ارميا العمشيتي. هذا كتب بخط يده على كتاب الانجيل المشهور بروعة رسومه وقدمه (انه من سنة 586) والمحفوظ اليوم في المكتبة المديشية في فلورنسا كتب ما نصه:


 «في سنة 1590 يونانية (الموافقة 1279 مسيحية) أتيت انا الحقير ارميا من قرية دملصا الى دير سيدتنا القديسة مريم بميفوق في وادي ايليج من عمل البترون (هي اليوم من أعمال جبيل) الى سيدنا بطرس بطريرك الموارنة ورسمني بيديه المقدستين وجعلني مطراناً على دير كفتون المقدس الذي ضفة النهر. وبقيت هناك أربع سنين وكان سكان الدير المذكور الراهب حزقيال ورفيقه الراهب اشعيا والراهب دانيال والراهب يشوع ورفيقه ايليا والراهب داود واثنين وثلاثين راهبا آخرين. وبعد انقضا السنين الاربع طلبني امير جبيل والاساقفة ورؤساء الكنائس والكهنة والقوا القرعة فاصابتني وصيّروني بطريركاً في دير حالات المقدس. ثم أرسلوني الى رومية المدينة العظمى. وتركت اخانا المطران توادروس يدبّر الرعية ويهتم بشؤونها».


 والبطريرك ارميا هذا شهد سقوط آخر القلاع الصليبية في الشرق. ومن بعد ذاك، على البطريرك شمعون الثالث، اشتدت هجمات المماليك وحلفائهم على المنطقة فصدّها المقدمون في معركة الفيدار سنة 1305، ثم كانت النكبة العظيمة بكسروان والفتك الذريع بأهلها النصيريين والشيعيين والدروز والموارنة.


 وكان أن أغار ملك قبرص الفرنجي على الاسندرية فجنّد سلطان مصر نائبيه في الشام وطرابلس للانتقام من البطريرك جبرائيل ولا ذنب له، فاحتمى في قريته حجولا. فقبض نائب طرابلس على اربعين رجلاً من حجولا فأكره البطريرك على الاستسلام فاحضروه الى طرابلس وأحرقوه في أول نيسان عام 1367، خارج المدينة عند طيلان في جانب تل الرمل.


 ثم نصل الى الزمن الذي فيه ترك البطاركة ايليج واعتصموا في وادي قاديشا، بعد أن كانت الكرسي الاصيل لهم منذ سنة تأسيسها عام 1121 حتى هجرها سنة 1440.


 في هذه السنة قدم قاصد البطريرك يوحنا الجاجي، وهو الاب فراجوان رئيس الرهبان الفرنسيسكان في بيروت، عائداً من مجمع فلورنسا، حاملاً للبطريرك درع الرئاسة وبراءة التثبيت. فأجرى له الموارنة استقبالاً في طرابلس. فوجس منه نائب المدينة شراً وظنه من جواسيس الفرنجة، فألقى القبض عليه وسجنه مع رفاقه. فأرسل البطريرك بعض أعيان الموارنة فكفلوا القاصد واخرجوه من الحبس. فأتي القاصد ميفوق وسلّم البطريرك رسالة البابا وألبسه درع الرئاسة وشرح له مضمون المجمع الاتحادي الفلورنسي، وعاد الى بيروت.


 ولما طلبه نائب طرابلس ولم يجده غضب غضباً شديداً وارسل العساكر فنهبت الدير واحرقت البيوت وقتلت الكثيرين من الرهبان والسكان وأخذت الاخرين مقيدين بالسلاسل. أما السيد البطريرك فالتجأ سراً الى دير قنوبين في وادي قاديشا واحتمى به حتى وفاته، واصبحت قنوبين المقر الرسمي للبطاركة، بعد أن كانت ايليج مقامهم، يتركونها بسبب الظروف ثم يعودون اليها كلما وفرت لهم ظروف أخرى سبيل العودة. وفيها يرقد سبعة بطاركة، من اولئك الذي قُدّرت لنم أن يسلموا من مطاردة «القشلق» وعساكر السلاطين فلم يموتوا بالنار أو بالماء أو بالسيف على طرق النزوح. فليس من العبث انهم كانوا يصلّون تلك الصلاة المؤثرة التي لا يزال يحفظها الاقدمون في قرى الجبل، وفيها مختصر الايمان وخلاصة التاريخ:


«يا ربي، لا تموّتني لا حريق، ولا غريق، ولا مشرحط عا الطريق. لكن موته هيّنة، وقربانة طريّه، وراسي عافراشي، والعذرا، فوق راسي. يا عذرا، يا ام النور، يا شعّالة البخور، عطيني من كتابك مزمور، تا صلّي سبع مرات بالليل، وسبع مرات بالنهار، واخلص من عذاب النار».


وهذه هي صلاتهم في الخوف:


«يا قابل الصلا، تدفع عني البلا، اللي بيطلع من الارض، واللي بينزل من الفلا. بفزع من الميزان وميَلْتو، ومن الشيطان وسطوتو، بفزع من الموت وكربتو، ومن القبر وعتمتو».


وهذه عندهم صلاة، الرجاء:


«مدّ المسيح يمينو وتفتّحت اناجيلو، وتنوّرت روس الجبال، وطلع منها تلاث رهبان، مار بطرس وبولس ومار يوحنا المعمدان، يحفظونا بالليل والنهار».


 كذا كانوا يصلّون للعذراء ويلوذون بها، فما من مقر بطريركي اصيل الا وهو على اسم السيدة، من سيدة يانوح الى سيدة ايليج الى سيدة قاديشا الى سيدة بكركي. فيسمون العذراء سيدة الحصن وسيدة النجاة وسيدة المنطرة وسيدة النصر وسيدة المعونات. وكانوا يعتقدون انها استجابت دعاء كلّ من مات على فراشه فلم يهلك «حريق ولا غريق ولا مشرحط عا الطريق». هذه هي «الموته الهنيّة» التي كانوا يحلمون بها، بينما تتتابع عليهم المآسي والمجازر من جيل الى جيل، مع انهم لم يعتدوا على احد ولم يغتصبوا ارض قوم، بل اختاروا عراء الجبال والاودية يقاسمون فيها الوحش مبيته والعقبان اوكارها. وحيثما ساروا كانوا يحفرون الارض لعمرانها، وبعد خربانها ويعودون الى تعميرها بجهاد وعناد لا يعرف الكلل، وبطاركتهم اول الفلاحين.


 وما يرتاحون زمنًا، في تاريخ حافل بالمصائب والمصاعب، حتى يندفعوا في عمليات التجديد ينقبون التراب وينشرون الكتاب ويجابهون القدر ويصمدون للبشر.


 إذا ضيقوا عليهم، رغم ضيق مداهم، احتموا في صخرة الوادي واعتزلوا وحرنوا هناك وتقوقعوا، وإذا وسع لديهم المجال تدفقوا من أعالي الجرد إلى الساحل فالجنوب فالبحر حتى يصلوا إلى أقاصي الدنيا ويختبروا كل فكرة ويجرّبوا كل شعار. فهم أكثر الناس تقدمية إذا امنوا، وأشدهم رجعية إذا فزعوا. وإذا ضمنوا الحرية نفخوا في الشرق روح التحرر، وإذا أذلهم استعمار فضلوا الانتحار. لقد كانوا أول من استقدم إلى الشرق فكرة الوطن فأرادوه كيانًا مستقلاً قائمًا بذاته منعوتًا بصفاته غير مضاف إليه. ومع هذا التزمت الوطني، كانوا أول من استنبط فكرة القومية العربية ونظّروها وجعلوا نفسهم دعاة لها.


 إنهم غلاة في كل شيء. كذا هو مناخ الجبل بتناقضات فصوله يعكس على أخلاقهم أضداده العنيفة. وكذا مناخ الوادي الذي هو قمة مقلوبة.


: حفرون ونفرون:


 بين اهمج واللقلوق، في جرد بلاد جبيل، قرن جبل اسمه حفرون. منه نستعير الأمثولة التي ننهي بها حديثنا. إنها أسطورة عتيقة استمرت دون شك من زمن الفنيقيين في غموض الوجدان الشعبي. إنها تقول: كان حفرون ونفرون أخوين من أنصاف الآلهة ولديهما امرأة من الأرض. على قمة ذلك الجبل ولدا ونشأا. ثم ماتت الأم البشرية والتحق والدهما الاله بالغيب وراء الغيوم. فكان لهما قصة تحاكي قصة الابن الشاطر في الانجيل ولكنها تنتهي بمأساة عكس ما ورد في المثل الانجيلي. وإليكم ما جرى فيها. حفرون البكر كما يدل اسمه بقي في الجبل «يحفر» الأرض ويقلب الصخر ويعارك الطبيعة القاسية لينتزع منها رزقًا لحاجة يومه. ولكن الطبيعة غلبت صموده بقساوتها وقحطها. فإذا حفرون يسقط في الجهاد ويموت من بؤس وجوع وبرد مطمورًا تحت الثلج على صخرة الجبل الأجرد الحامل اسمه حتى الساعة.


 أما نفرون أخوه الثاني فاسمه دليل مصيره. هذا «نفر» لضيق المجال الحيوي ورحل عن الجبل الصخري وسار في درب المغامرة. فنزل الساحل وأبحر بعيدًا في مركب قاده إلى التغرب في متاهات العالم، وضلّ طريق العودة. ثم نسي نفرون أخاه حفرون ولم يعد من الغربة ولم يسمع به من بعد أحد. حفرون قضى على الجبل العاري، ونفرون انطوى في ذاكرة النسيان.


 قد تكون هذه الأسطورة الحزينة تعبيرًا عن حقيقة اختبار الفينيقيين الذين تنازعتهم دعوتان كلتاهما إلى الخطر: دعوة للثبات في حمى الجبل وأخرى للرحيل في تيه المجهول.


 ولكنّها تعبّر أيضًا عن حقيقة اختبار اللبانيين الذين استمروا عرضة لهاتين التجربتين، فإذا هم موزعو الفكر بين إرادة الاقامة ونزعة الاغتراب.


 وعلى كل حال فالأسطورة هذه هي أصدق رمز عن تاريخ الموارنة منذ كانوا. ففي نفس كل ماروني يعيش حفرون اللاحق بجبله، المنكفئ على ذاته، المنقبض في عزلته، الذي لا يبيع فقره بالدنيا، فنهده لحده، وكل تاريخه جهاد مع الطبيعة. وفي النهاية مصيره الاخفاق والموت في فاجعة.


 ولكن في نفس كلّ منهم يعيش أيضًا نفرون المهاجر الذي بناديه، لا الرحيل في مدى المساحات فحسب، بل في متاهات الفكر، والاغتراب في المجاهيل ثم الضياع والانحلال بعيدًا عن تراثات الأرض الأولى ونكران معطياتها ونسيان قيمها.


 فكم من مقيم انغلق حتى اختنق كحفرون، وكم من مغترب انطلق حتى انفلق كنفرون. فهما دعوتان واحدة لكسر كل طوق وقيد، والاقبال على كل جديد وبعث كل بدعة، وكشف كل غريب وهتك كل تخاذل. وواحدة للتزمت في المحافظة على كل تقليد والتقوقع في كل موروث بالٍ عتيق. حفرون يموت اعتزالاً ونفرون انحلالاً.


 أترى هذا هو مصير الماروني في نهاية المطاف؟ أحكم عليه سلفًا القضاء والقدر أن ينتهي المقيم والمغترب من بنيه كما انتهت تلك الأسطورة الحزينة؟ إن محاولته الكبيرة – وفيها سر قلقه وعناده وسبب خوفه وجسارته – هي أن يجعل التاريخ مكذّبًا للخيال وأن يكون الواقع غير ما حكمت به الأساطير، فيضمن لحفرون المقيم أن لا يموت جوعًا وعريًا على جبله الأجرد، ويضمن لنفرون المغترب أن لا يهلك نفيًا ونسيانًا في أرض التيه.


 ما مرت على الموارنة، في زمن ايليج وقبله وبعده، محنة إلا ومردّها إلى هاتين النزعتين الراسختين في وجدان هذه الأمة التي تعيش في القلق والفزع ولكنها لا تستسلم إلى الجبن والجزع. تبحث لها في الخارج عن ضمانات لتفي في الداخل بكل الأمانات. تقبل على الانفتاح حتى الانحلال ثم تنكفئ على الانغلاق حتى الاعتزال. كالبزّاق على صخرة تمدّ قرنيها إلى البعيد، وما تصاب بصدمة حتى تعود فتتقوقع على ذاتها وتلتصق بالصخرة كأنها منها.


 مأساتها هي أولاً في نفسها المشطورة: ان تكذّب الأساطير فيسلم لحفرون المقيم رغيف زاد ولنفرون المغترب أرض ميعاد.


 ولكن ما لها وللأساطير. فالمسيح الذي تؤمن به هو حقيقة أبهى من كل أسطورة وأروع من كل خرافة وخيال. هو مكذّب اليأس وصارع الأقدار ومطوّع الحتميات. بالمسيح نعرف ان النهايات بدايات وان حفرون ينهض دومًا حيًّا من نعش الثلج، وان نفرون الذي تخطّفته المتاهات يستردّ حريته من الجحيم الغاصبة – على شرط أن تتحول حكمة الأساطير إلى يقين ايمان بالذي صرع الشر بالمحبة وتخطّى الموت بفعل الارادة وحوّل القدر الأعمى من فاعل بنا إلى مفعول به.


 ولهم من سيدة ايليج، في تذكارها المئوي السابع، أبلغ عظة في قدرة الايمان على الصمود بوجه الطبيعة الغاشمة والتصدي لمآسي التاريخ، والاستمرار، على رغم التناقضات والنكبات، في حمل رسالة الروح كما يُحمل الصليب.


 لقد أثبتوا في القرون الثلاثة الأخيرة على الأقل، وهم أقلية عددًا، انهم أكثرية حضارةً لوفرة ما أبدعوا وجددوا وغامروا وقامروا شرقًا وغربًا في سبيل ايجاد انسان مشرقي جديد ووطن فريد.


 والانسان قبل الأوطان. إذا سلم سلمت، وإذا خارت روحه انهارت أرضه. من تحرير الروح تبدأ عملية تحرير الأرض. فعليهم اليوم، كما على الجميع، وكلنا نازحون مشرّدون عن لبنان الروحي، أن نتجنّس روحيًّا فيه لنستحق استيطانه من جديد.


Comments

Popular posts from this blog

اسم لبنان في معناه اللفظي (الجزء الاول) - كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -

اسم لبنان في النصوص الفينيقية - ب- إناء ليماسول الفينيقي ( القرن الثامن ق.م. ) كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -

اسم لبنان في نصوص ايبلا - كتاب " لبنان جدلية الاسم والكيان عبر ٤٠٠٠ سنة " - د. انطوان خوري حرب -